التربية الصحيحة و القويمة لأبناء المسلمين, أصبحت يشكل تحديا حقيقيا للآباء و الأمهات على اعتبار تعدد المؤثرات السلبية و الخطيرة على أطفالنا كما و نوعا.
و قد ترك لنا النبي الكريم منهجا واضحا و فعالا لتربية أبنائنا يعرضه المقال الآتي للدكتور أحمد عبد الكريم نجيب
الهدي النبوي في تربية الأبناء
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد ..
فإن الله تعالى امتن علينا بنعمة الذرّية ، و حذّرنا من الافتتان بها فقال : ( إنّ من أموالكم و أولادكم فتنة ) ، و انتدبنا لنأخذ بحُجَز أهلينا عن النار فقال : ( قوا أنفسكم و أهليكم ناراً ) ، و ذلك من حقّ أهلينا علينا ، و تمام رعايتنا لهم ، و كلنا راع و مسؤول عن رعيته كما في الحديث .
و لأداء أمانة الرعاية لا بدّ للأبوين من الحرص و العمل على تعليم الأبناء و تربيتهم ، و لا يفوتنهما أنهما محاسبان على التهاون و التقصير في ذلك .
فقد روى الترمذي و أحمد و غيرهما بإسناد صحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِى يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا « أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا » . قَالَتْ لاَ . قَالَ « أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ » . قَالَ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ .
و الشاهد هنا أنّه رتب العقوبة على الأم و ليس على البنت التي لبست المسكتين في يدها ، و لعل هذا لإقرارها على المنكر أو تسببها فيه .
و التربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار ، قال الإمام الغزّالي رحمه الله في ( الإحياء ) : ( ممّا يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه ، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره من حَرَدٍ و غضب ة لِجاجٍ و عَجلةٍ و خفّةٍ و هوىًَ و طيشٍ و حدّة و جشع ، فيصعب عليه في كِبره تلافي ذلك و تصير هذه الأخلاق صفات و هيئات راسخةٍ له ، فإن لم يتحرّز منها غاية التحرّز فضحته لابدّ يوماً ما ، و لذلك نجد أكثر الناس منحرفةً أخلاقهم ، و ذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها ) .
و قال الشاعر :
و ينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
و قد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، و العلم في الكبر كالغرز بالإبر
و حدّث و لا حرج عن هدي النبي صلى الله عليه و سلّم في التربية ، لتر مدرسةً متكاملة المناهج ، راسخة الأصول ، يانعة الثمار ، وافرة الظلال في التربية و التنشئة الصالحة ، حيث اعتنى بهم بنفسه ، و أوصى بهم خيراً في العناية و الرعاية .
و من عنايته صلى الله عليه و سلم بتعليم الأطفال دعاؤه بالعلم النافع لبعضهم كما في مسند أحمد و مستدرك الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِى - أَوْ عَلَى مَنْكِبِى شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ » .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تشجيعه على طلب العلم ، و إفساح المجال أمامه لمخالطة من يكبرونه سنّاً في مجالس العلم :
روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ » . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « هِىَ النَّخْلَةُ » .
و روى البخاري و غيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ – قيل إنّه عبد الرحمن بن عوف - : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا ، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ .
قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى فَقَالَ مَا تَقُولُونَ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نَدْرِى . وْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئاً . فَقَالَ لِى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لاَ .
قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) قَال عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ .
و في حضور الناشئ مجالس من يكبرونه سناً و قدراً تكريم له ينبغي ألا يعدِم التأدّب و التخلّق فيه ، و من أدبه في مجلسهم أن لا يُطاولهم أو يتعالم بي
نهم ، أو يتقدّمهم بحديث أو كلام .
روى مسلم في صحيحه أن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال : لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلاَماً فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِى مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّى .
و في هذا المعنى يرد قول الحسن البصري في وصيّته لابنه رحمهما الله : ( يا بني ! إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول ، و تعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام ) .
مع أنّ حسن الإصغاء و الاستماع أدبٌ رفيعٌ في حق الكبار و الصغار جميعاً ، و قد أحسن من قال : المتحدّث حالب ، و المستمع شارب ، فإذا كفيت مؤونة الأولى فأحسن الانتهال منها .