ودخل الصلاة بأي قبلة كانت ليكسب وقتاً حتى نهدأ من غضبنا وننتظر حتى ينتهي من الصلاة، وأحياناً كانت تطول هذه الصلاة .. سبحان الله كان رمضان هذا مليئاً بالبهجة والسرور والسعادة .. كنا فرحين بكل شيء مهما صغر.
فريال إبنتي الكبرى التي حماها الله لنا .. وهي ابنتي البكر ودرة البيت تساعد أمها ومعهم مسرّة، وكنا نهيء للإنتقال لبيتنا الجديد الذي أخرنا الإنتقال إليه إلى بعد رمضان حتى لا يلهينا عن إغتنام شهر رمضان والتركيز في العبادة، فكنا نذهب قبل رمضان إلى بيتنا الجديد كل أسبوع وقد اختار كل من أبنائي غرفته وألوانها والرسومات التي فيها حتى شكل المسبح اختاروه هم وصمّم على أساسه، جناح منفصل لفريال ومسرّة بغرفتين وصالة وحمام، وكذلك الحال لميسرة وبلال، وكانت فريال ومسرّة تضحكان على ميسرة كيف يكون له غرفة خاصة ويقولون وهم ضاحكون "لو وُضع في الحمام ما يقول شيء"، وأجيب سيكبر قريباً إن شاء الله ويتغير الحال ... والحمد لله على كل حال.
.
قبل وفاة مسرّة بأشهر عبرت لي زوجتي عن خوفها على مسرّة حيث أنها أصبحت تحفظ بسرعة عجيبة صفحتين في اليوم أو يزيد وتجلس إلى أمها وتحدثها بلغة ليست بلغة عمرها فتقول لها "هذه السورة مرّة عاجباني .. هذه الآية مرة حلوة"، وتكون النتيجة تفاعل عجيب بين مسرّة مع القرآن وتُنْهِي في اليوم الواحد صفحتين ونصف بكل سهوله ويسر، وجاء شهر رمضان .. آخر رمضان لمسرّة وميسرة، وقد وَعَدْتُ ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات والحافظة من القرآن تسعة أجزاء أنها إذا حفظت جزءاً جديداً من القرآن فلها جائزة قيمة، ووعدت مسرّة أن لها مثلها إذا حفظت نصف جزء من القرآن على أن ينتهيا من هذا الحفظ قبل الخامس والعشرين من رمضان حيث أن المُحفّظة ستسافر ولابد أن تُسمّع لهما قبل سفرها، وبعد ساعتين وجدنا مسرّة حزينة "مبوزة"، وسألناها لماذا أنت حزينة فأجابت "ليش تقول لفريال تحفظ جزء وتقول لي أنا أحفظ نصف جزء"، فأجبناها "أنتِ أصغر وإذا أردتي أن تحفظي أكثر من النصف فاحفظي"، قالت "أيوه وأسبقها أنا أحفظ قبلها"، ووعدناها بجائزة إن هي فعلت، وجاء اليوم الموعود يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان وأنا بين التراويح والتهجد في الحرم رأيت مكالمة من البيت فاتصلت وأجابتني ابنتي مسرّة وصوتها كالعادة فرح وإن كان أكثر من المعتاد وتقول كلام غير مجمّع لشدة فرحها وسرورها "أيوه أنا ... تاج ... هدية ... جائزة ... خذ ماما"، قالت لي زوجتي "يا سيدي مبسوطة لأنها دوبها الساعة الواحدة وانتهت من الجزء الجديد وسورة إضافية فوقها وهي الآن سابقة المدرسة بجزئين تقريباً" وأمها تضحك وتقول لي "هي التي طالبت المحفّظة بالجلوس عنوة وقالت ما تخرجي قبل ما أَسمِّع كل اللي حفظته معاكي" وجرت على أمها في المطبخ وقالت لها "إقرأي علي الفاتحة" – نعم - طلب غريب عجيب يصدر من طفلة لأمها، وتعجب الأم لطلب ابنتها ولكن لله في خلقه شؤون وله معهم حال لا يدركه ولا يراه إلا أولو الأبصار، وكانت سعيدة سعادة عظيمة بانتهائها من تسميع جزء كامل وسورة فوقها دون خطأ واحد فقالت لها الأم "سيحضر لك بابا ما طلبت من بلاي ستيشن ومطالبك الأخرى"، وبدأت تخطط الطفلة مع أمها أين تسافر وتذهب للفسحة وماذا تشتري من هدايا للعيد والمكافآت وجهاز الكمبيوتر وتشاتينج على الإنترنت وغيره مما يتطلع له أطفال اليوم، وإن كانت مسرّة غير كل هؤلاء الأطفال في أن جائزتها الكبرى في كلمة ما زالت ترددها وهي "التاج".
نعم لقد كان جُلّ همها أن تلبس التاج بحفظها للقرآن وأن تُلبس أباها وأمها هذا التاج يوم القيامة قبل أختها فريال.
بعد إنتهاء صلاة التهجد عدت إلى البيت ووصلت الساعة الرابعة والنصف، وككل يوم يكون الأبناء نائمين فأتسحر أنا وزوجتي، ولكن اليوم كان مختلفاً عن باقي الأيام فميسرة ما زال مستيقظاً ولا يريد النوم ونشيط ويلبس البيجامة التي يسميها "النامة"، وجاءني وتعلّق بي بطريقة غريبة -غريب أمر ميسرة ومسرّة- كأن ميسرة كان يعلم أن هذه آخر ليلة سيقضيها معي ومع والدته فأراد أن يأخذ منها أكثر ما يستطيع ويعطي فيها والديه آخر سويعات له على وجه الأرض، فتسحّر معنا وبقي للفجر ثم ذهب للنوم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يجري فيها ميسرة إلى أخته مسرّة وينام في حضنها، وتصف الأم بغرابة كيف نام في حضنها ووضع رأسه على صدرها ورجله على رجلها وأخذ يدندن كعادته وكأنه كان يعلم أنهما سينتقلان عما قريب سوياً إلى مكان واحد فبدأت رحلتهما سوياً في تلك الليلة، وجاءت الساعة الحادية عشرة صباحاً ووجدت ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات تقف على رأسي وتوقظني وهي تتكلم بصعوبة وتقول "أنا وماما وميسرة تعبانين"، فخرجت من الغرفة ولقيت زوجتي وأطفالي الأربعة على الأرض، ميسرة مطروح على الأرض وجهه شاحب وشفائفه زرقاء وزوجتي تمسك ببطنها وكلهمم يتقيأون، وفريال تترنح وتكاد تسقط من طولها وأنا في ذهول لِمَ لَمْ توقظوني من قبل؟!.. وعلمت أن الأمر حدث بسرعة فائقة وفي لحظات لم يعد لديهم قدرة على الحركة وكأنّمَا أصابهم الشلل، وكانت الحال كذلك بمسرّة وهي مطروحة في الصالة، فقلت في نفسي ليس هناك وقت، وهل الإسعاف سيأتي بسرعة؟! .. فحملت الإثنين الصغار وأمهم تتكئ علي وناديت إحدى أخواتي وهي طبيبة إستشارية أطفال. لا أدري كيف وصلنا إلى المستشفى؟! وصلنا الطوارئ وكل الذي يدور في خلدي هو تسمم وأقصى ما سيكون هو غسيل للمعدة، وكان ميسرة يتكلم وما زال في وعيه وإن كان مرتخي الأعصاب، وكان يصرخ ويبكي وما زال فيه قوة، وبدأ فريق الأطباء والتمريض في العمل وبدؤوا في وضع إبرة المحلول .. وفجأة ومن وضع النائم المتعب المرتخي العضلات قفز على طرف السرير ونظر إلى الباب كأنه رأى شيئاً أزعجه أو أن شخصاً دخل علينا فظننت أن أمه دخلت علينا، فنظرت بسرعة فلم أر أحداً دخل وأعدت نظري إليه فإذا بأعضائه كلها ترتخي فجأة وفي ثوان رأيت الفريق الطبي يحاول إنعاش قلب إبني بلا فائدة حتى أن الأطباء أنفسهم كانوا في ذهول لسرعة ما حدث، وعلمت بعد ذلك أن الأطباء قضوا وقتاً طويلاً في محاولة إنعاش القلب لإبني دون فائدة، ولكن الوقت مرّ بالنسبة لي كأنه دقائق وثوان، ولم تنزل عيني عن الشاشة التي فيها رسم دقات القلب لعل الحياة تدبّ مرة أخرى في إبني ميسرة .. كنت أبحث عن معجزة تنزل من السماء .. لم أكن اتصور أن هذا الوجه البريء يسكت عن الكلام، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أنني سأقف مثل هذا الموقف .. لم أكن أتصور أن هذا الوجه البريء سيغيب عني وأنه سيسكت عن الكلام للأبد .. يارب .. يارب .. يارب. تمنيت أن أستطيع فعل شيء .. كل الذي كان في حيلتي هو الدعاء ومسح آثار الدم التي تخرج من أنفه وفمه وكنت أقول في نفسي دعها تخرج قد تكون هذه آثار حياة تعود.
عجيب أمر الإنسان .. كيف تختلف عنده المعايير وتنقلب الموازين بتغير الأحوال، والله إني كنت سعيداً في كل مرة يُصعقُ فيها قلب إبني الصغير بالكهرباء ويهتز كل جسده ويعود القلب يرتعش أمامي على الشاشة لأن ذلك يعني شيئاً واحداً أن هناك أمل .. أي صورة من صور الجنون هذه أن يتمنى والدٌ أن يُصعَقَ قلب ابنه بالكهرباء، ولكنها حال أب لا يريد أن يفقد إبنه، وبعد فترة من الزمن فقدت إدراكي بالزمن، ورأيت الدموع تنهمر في عيني الطبيب الذي ينعش قلب ميسرة فعلمت أن كل شيء قد إنتهى. لم أكن أتصور في
>>>>>>> تابع