من الذي قتل مسرّة وميسرة الجزء الخامس
حياتي أن أباً عاقلاً يقبل أن يشق صدر إبنه أو أن يفتح في رأسه فتحه ولكن شدة خوفي على فقدانه للأبد جعلني أتمنّى في تلك اللحظة أن يشقوا صدر إبني لأن ذلك كان يعني بالنسبة لي أنه ما زال هناك أمل أن يعود لي إبني ميسرة فلم أكن مهيئاً لوداعه، وفي لحظة نظرت فوجدته مرتخي الجسد بارداً وأنا أسأل نفسي أين ذلك الوجه الأبيض الأشقر الجميل؟!.. أهكذا ينتهي كل شيء في دقائق؟!.. كان يتكلم قبل ساعة!!.. كان يلعب معي البارحة!!.. لم يكن عند أحد إجابة عن الذي حدث؟! وكيف حدث؟!..
وانتهى كل شيء وغاب ميسرة عن الدنيا وودّعها .. علمت في تلك اللحظة أن باقي أفراد أسرتي في العناية المركزة، وتمنّيت أن آخذ ميسرة معي إلى هناك، يعلم الله أن تركي له في غرفة الطوارئ كان أشق وأصعب علي من أن أموت وأحيا ألف مرة وأُقَطَّع ويُفعل بي أي شيء، ولكني مضطر أن أترك طفلي الصغير ميسرة فباقي أسرتي كلهم الأربع في العناية المركزة لا أدري بحالهم.
كان علي أن أتماسك وأن لا أُبدي حزناً وأن أقف بجوار كلٍ من زوجتي وأبنائي الثلاث الباقين لي على وجه الأرض، فبدأت بابنتي فريال "درة أبنائي وبِكري" فوجدت حالتها مستقرة، وجريت لغرفة مسرّة فوجدتها في حالة مستقره وما آلمني إلا أنها ذهبت للمستشفى وهي صائمة ورفضت أن تفطر بالرغم من إصراري على أن تفطر وهي طفلة صغيرة لم يكتب عليها الصيام بعد، وما أن وصلنا إلى المستشفى إلا وشفائفها مشقّقة من الجفاف وترفض أن تشرب وإن كانت منذ وصولها تأخذ السوائل والمحاليل بالوريد، وجلست بجانبها وهي واعية والحمد لله وتتحدث إلي وإلى عمتها وأمضينا تقريباً ست ساعات على هذا الحال وقلنا الحمد لله بدأت الأمور تستقر وتهدأ، وإن كان هناك شيء في نفسي يجعلني غير مستقر وهو علمي بالإرتباط غير الطبيعي بين كلٍ من مسرّة وميسرة، وهي تتلقى الأكسجين والسوائل بالوريد وموصلة بأجهزة القلب والتنفس الصناعي ورسم تخطيط القلب وغيره من مستلزمات الرعاية المركزة، علمت بعد ذلك أن المستشفى قامت بالإتصال بمركز سموم جدة وبإرسال عينات لمعرفة نوع التسمم، وبحكم إتصال المستشفى المباشر بأمريكا فقد تم كذلك الإتصال ومناقشة الحالات مع مركز السموم في ولاية "كاليفورنيا" بأمريكا أجراها رئيس الأطباء في المستشفى، وقدم شرحاً إكلينيكياً متكاملاً، وبدأ الشك في أن هذه ليست حالة تسمم غذائي عادي، وقد يكون هناك سم قاتل فيه مادة الألمنيوم، وبالتحديد مادة فوسفيد الألمنيوم (Aluminum Phosphide)، وقد علمت مؤخراً أن ليس هناك وللأسف الشديد أي علاج لمن يستنشق الغاز السام الصادر منها، وبعد استجواب ومراجعة تاريخ اليومين الماضيين بالتفصيل بدأت الشكوك تزداد وتتضافر المعلومات التي تشير بأن ما نتعامل معه هو تسمم ناتج من إستنشاق غاز الفوسفين (Phosphine) السام المنبعث من أقراص مبيد الآفات فوسفيد الألمنيوم، وأن أحد سكان الأدوار السفلية في العمارة التي نقطنها قام بوضعه بشقته بكميات كبيرة وأغلقها وسافر إلى بلاده، من الذي يبيع هذه المادة السامة؟!.. من الذي أرخصها واعتمدها كمبيد حشري للأماكن المأهولة؟!.. من الذي يراقب هذه المواد السامّة ويأذن باستيرادها؟!.. من الذي وفّرها له بهذه الكميات القاتلة؟!.. من الذي يشارك في قتل أبنائنا بجهله أو إهماله أو جشعة؟!..
بقيت بجوار ابنتي مسرّة أمسك بيدها حتى جاءت الساعة التاسعة والنصف مساءً، وكانت كل الأمور تسير بشكل جيد وبجانبها معي عمها وعمتها "أختي الصغيرة وهي طبيبة في الجراحة"، وتسأل مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" وأنبوب التنفس في فمها فتشير بأنها جيدة، وفي لحظة أصبحت تتكلم بسرعة وتشير لنا حتى ظننا والأطباء أنها حالة عصبية وهي تحاول أن تتكلم وتشرح لنا أنها ترى شيئاً وتطالع للأعلى .. نفس النظرة التي نظر ميسرة بها إلى باب الطوارئ، ونظرت ولم أجد أحداً ثم غاب عني تكرر المشهد مرة أخرى مع إبنتي مسرّة .. أخذت أحدّثها .. أقول لها يابنتي "مين فوق؟ مين قاعد يكلمك؟" وهي تريد أن تشرح، ولكنني لا أفهم لوجود أنبوب التنفس في فمها، وطلبت منها أن تمسك بيدي ففعلت ودخل مجموعة أطباء آخرين، وعلمت آنذاك أنهم أصبحوا قلقين بأنهم يتعاملون الآن مع هذه المادة السامة القاتلة والغاز القاتل والتي وللأسف ليس لها علاج في حالة إستنشاق كمية كبيرة منها. ودخل رئيس قسم التخدير وقال لي أننا نتعامل مع دورة ولكننا لسنا متأكدين منها بعد، ولم أرد أن أشركهم مخاوفي ولم يريدوا بعد أن يشاركوني في التفاصيل المشئومة، وكانوا متفائلين أنها ستعيش بالرغم من ذلك وسألنا مسرّة "كيف حالك يا مسرّة" فهزت رأسها وهي واعية فاسترخينا .. وفجأة سمعت نفس الجرس المشئوم .. لقد توقف القلب، لقد كانت تتحرك قبل دقائق تجيبني وتستجيب لي وتتكرر نفس الدورة مثل ميسرة وأصبحت أُشِير لهم على ثوبي وفيه دم إبني ميسرة وأقول لهم "ما نشف دم ميسرة .. بس خلوه ينشف".
>>>>>>>> تابع