وانتهى كل شيء .. غابت مسرّة كما غاب ميسرة في لحظات، ترى ما هذا الذي رآه ميسرة ورأته مسرّة لحظات قبل وداعهم هذه الدنيا؟! .. ليتني أسمع من صغيرتي ما هذا الذي رأت وليتني أسمع من صغيري ما هذا الذي رآه؟!.. يقولون لي إصبر .. وإني والله سأصبر، ولكن كيف أوزع صبري؟! .. أأوزعه على كلماتهم التي ما زالت ترن في أذني؟! أو على ذكرى ضحكاتهم ولعبهم بين يدي؟! أو على أحلامهم؟! .. أو أصبر على رؤية أمهما وهي تستقبل الخبر ونعيش ما بقي من عمرنا نداوي هذا الجرح العميق؟! .. أو أصبر وأنا أرى درّة قلبي وبكري فريال وهي تخوض الحياة وقد سُلبت أختها الوحيدة وأخاها؟! .. كيف ستعيش وتتعامل مع هذه المأساة؟! .. أمسك بجدار غرفة العناية المركزة أنظر إلى إبنتي مسرّة وقد أحاطها الأطباء من كل مكان لا لشيء إلا لحرقتهم وألمهم أن يتركوها، كالذي علم بعقله أن كل شيء إنتهى ولكن قلبه لا يطيق أن يذعن ويقبل .. وبقينا ننظر لها وقد انتقلت لربها، وحولها سبع أطباء يذرفون الدمع حزناً عليها.
وخرجت من هناك ولا أدري أخروجي من هذه الدنيا سيكون أصعب أو خروجي من تلك الغرفة وقد ودعت فيها ميسرة ومسرّة في بضع ساعات .. رحلة قصيرة تلك التي قضيتها معكما يا ميسرة ويا مسرّة، ثم أسرعت لابنتي فريال وجلست بجانبها وزوجتي وابني الرضيع بلال وهم مازالوا في غرف العناية المركزة، وأصبحت أتنقل بينهم لا أدري كم سيبقى لي منهم بعد نهاية هذا اليوم الذي بدأ بمكالمة هاتفية من مسرّة وأنا في الحرم بين صلاة التراويح والقيام لتبشيري بانتهاء جزء من القرآن وسورة فوقها، وتذكر كلمة "التاج" وكلام آخر كثير، فقدت في هذا اليوم إثنين من أبنائي ومازال هناك في اليوم ساعات .. يارب رحمتك ولطفك بما تبقى لي من أهلى. وانتهى اليوم وأبقى الله لي زوجتي وابني الرضيع بلال ودرة أبنائي فريال .. فالحمد لله الذي أعطى وأخذ .. وكل شيء عنده بمقدار، وتجلدت وصَابَرتْ معي أم مسرّة وميسرة، ساعات أليمة تلك التي قضيتها مع زوجتي في العناية المركزة وهي على سريرها ورأسي على جانب سريرها لا أكاد أرفعه من ثقل ما أحمل.. لم أكن أتصور أنني سأدفن ابني وابنتي الطفلين بل أن أدفنهما في يوم واحد.. وكم مرت عليّ اللحظات مر الشّفرات تقطع لحمي وتفري عظمي وأنا واقفٌ بين القبرين والكل من حولي مجتهد أن يواريهم الثرى وأنا حائر بينهما .. أأقف على هذا أم أنظر ذاك؟! أأدعو هنا أم أبكي هناك؟! .. وأنا أُقْتَل ألف مرة بكل ذكرى أحيتها مسرّة وأحياها ميسرة فيّ، كيف أوزع صبري؟! .. مرت أيام عصيبة وانتقلنا للغرف العادية .. وجاء العيد ونحن ما زلنا في المستشفى .. وبدأ التكبير بعد صلاة الفجر وأنا لا أريده أن يقف، ولا أريد العيد أن يبدأ .. وكيف لعيدنا أن يبدأ وقد إنتهى عيدي بدفني لأبنائي الإثنين ميسرة ومسرّة، وعلمت بعد ذلك أن سكّاناً آخرين أصيبوا كذلك بأعراض إستنشاق هذا الغاز السام، وعلمت بعد ذلك أن هذا المبيد الحشري -مبيد فوسفيد الألمنيوم- هو مبيد حشري فعّال في تبخير صوامع الغلال والمخازن لقتل سوس الحبوب والدقيق وكذلك لقتل الفئران والجرذان بل هو غاز قابل للإشتعال، وعلمت كذلك أن وزارة الزراعة هي التي تمنح تراخيص إستيراد وبيع المبيدات الزراعية ومنها مبيد فوسفيد الألمنيوم، وهي المسؤولة عن المراقبة للتأكد من إلتزام كل منشأة حصلت على ترخيص إستيراد هذه المادة بأنها ملتزمة بالقيود التي وضعتها وزراة الزراعة والموقّع عليها، وأن لا تُصرف هذه المواد الزراعية السامة إلا للجهات المرخّص ببيعها وإستخدامها، وأن وزارة الزراعة تطلب هذه الضمانات الموقع عليها خطياً من صاحب المنشأة التي طلبت إذن الإستيراد وذلك قبل إفساح الشحنة من الميناء مع تضمين شهادة(SASO) وهو الإختصار المعروف لهيئة المواصفات والمقاييس، وعلمت كذلك وللأسف أن هناك أكثر من عشرين حالة وفاة على مدى عامين من جراء غياب الرقابة لبيع هذا المبيد الحشري الذي لا يدخل البلاد إلا بإذن وتصريح من وزارة الزراعة، وأنه لذلك لا تستخدمه أمانة محافظة مدينة جدة ولا تتعامل معه من قريب أو بعيد ولا تستخدمه في برامجها لمكافحة آفات المدينة لأنها تعلم بمدى خطورته، وتستخدم فقط المبيدات التي أقرت من قبل الجهات المتخصصة وتقع فقط ضمن ما توصي به منظمة الصحة العالمية. وعلمت كذلك أن الأمانة بدورها في تأمين الأمن والسلامة لكافة سكان مدينة جدة قد عقدت ندوتين توعويتين بمشاركة وزارة الصحة حول سبل السلامة في إستخدام المبيدات، وكانت الندوتين في شهري 2 و6 من هذا العام، وقد خصصت الندوة الثانية لمراقبي ومراقبات الأسواق لدينا للتعرف على هذه المادة السامة وعبواتها ومصادرتها من محلات النظافة والعطارة والبقالات الشعبية غير المرخص لها بالإتجار فيها، بل وقد قامت وزارة الصحة بالتنبيه مراراً ومراراً من خطورة هذا المبيد وضرورة إزالته من الأسواق، وقد أرسل بالفعل خطاب رسمي من مدير الشؤون الصحية بمحافظة جدة بتاريخ 18/03/1429هـ للجهات المعنيّة لتحذيرها من إنتشار هذا المبيد في الأسواق وضرورة التعامل الفوري مع هذه المآساة والكارثة التي تحصد أطفال هذه المجتمع .. أين الرقابة إذن؟! .. مَن وضع هذا السم القاتل بهذه الكمية بين يدي من استخدمها؟! .. أين رقابة وزارة الزراعة من هذه المنتجات؟! .. وإنني أسأل اليوم إن لم تكن وزارة الزراعة هي المسؤولة فمن المسؤول؟! .. من الذي قتل طفليّ مسرّة وميسرة؟! .. من نزعهما من بين يدي وغيّبهما عن حضني؟! .. هل قتلهما حقاً هذا الجار .. أم الجهل .. أم الجشع .. أم غياب الرقابة .. أم هم جميعاً؟! .. هل هو جهل مجتمع وتقصير المسؤولين في توعيتهم؟! .. أو جشع التجار ذوي الضمائر الفاسدة وسعيهم للربح السريع؟! .. أو غياب رقابة وزارة الزراعة المسؤولة والمصرّحة لدخول هذا المبيد تحت مسئوليتها والتي أخذت التعهدات اللازمة من المنشآت الزراعية!! .. أو أن المجتمع بأسره قد قتل ميسرة ومسرّة بالتقصير في محاربة الجهل ومعاقبة الجشع وغياب الرقابة؟! .. كيف يغلق ملف مثل هذا بهذه البساطة وهذه السهولة وتختذل القضية فقط في تجريم صاحب الشقة السفلية الذي قام باستخدام المبيد القاتل بلا رحمة في شقته؟ إن فعله القاتل ما كان ليحصد ثمرة فؤادي لو لم يعنه عليه من وفّرها له في السوق أو البقالة بل حتى محلات العطارة. لو حدث هذا في الغرب ألن تكون هناك محاسبة شديدة وفتح لملف التحقيق دون أن يكون هناك حصانة؟ فهذه حياة بشر .. وأي بشر؟! .. فهم أثمن ما أملك وليس هناك ثمن على وجه الأرض يمكن أن يقدم كتعويض عن فقد روح واحدة .. "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً". أما الصحافة فحدّث ولا حرج، فبعض الصحفيين كتبوا وليتهم ماكتبوا .. تزييف وتشويه للحقائق بل وإيذاء وتجريح لنا)). إنتهت القصة على لسان والد ميسرة ومسرّة.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. لا تعزّوهم بكلمات جوفاء وإن خرجت من قلوب صادقة .. يكفيهما عزاء بعض الصحف والصحفيين التي اتهمتهما بالإهمال والتقصير والجهل، إتهمت الأب وهو الرجل المتعلم الواعي المثقّف الذي يحمل شهادة دكتوراة في الهندسة والحافظ لكتاب الله، والذي جمع بين علمي الدنيا والآخرة وأشهد الله أننا ما رأيناه إلا مدرسة في العِبَر ونموذجاً راقياً في التربية والتعامل مع أشد إبتلاء ومحنة، واتهمت الأم وهي السيدة الكريمة التي تحملت أعباء بيتها وتربية أبنائها وكرّست حياتها من أجلهم وأخرجت أبناءً وبناتٍ حفظةً لكتاب الله، ليكن عزاؤكم لهما أن تجعلوا من حياة ووفاة مسرّة وميسرة خيراً عظيماً لهذا الجيل، وعطاءً ومنفعةً لهذا المجتمع، فهذا ما كان أبو مسرّة وميسرة وأمهما يعملان من أجله، وقصة تربيتهما لمسرّة وميسرة لهيَ أكبر دليل، ولن يكون ذلك أبداً بمعالجة سطحية للموضوع بل بالتركيز على ما هو أحق وأولى أن يعالج.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. أقول لهم عزوهما بأن تُحيوا لهما سيرة مسرّة وميسرة..
ليصبح ميسرة رمزاً لتيسير أمور كثيرة عُسّرت على الناس ولم تزل إلى اليوم معطّلة..
ولتصبح مسرّة رمز لإدخال السرور في نفوس اغتالتها الهموم فأصبحت بها مكدّرة..
ولنعيد للإنسان في مجتمعنا قيمته المهدرة..
ونرفع بهما شعار "البشر قبل الحجر"..
ولنُفعّل إحياءً لذكراهما قول الله تعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً
.
.
د. وليد أحمد فتيحي
طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي
. هذه القصة نقلتها لكم ولم استطع ان اعلق عليها الا بدموعي سائلاً المولى الرحيم أن يجمع هذه العائلة المباركة في مستقر رحمته....
.