تحية طيبة وبعد ....
.
.
.
.
أنقل لكم الليلة هذه القصة التي فجع بها أهل جدة في يوم 25 من رمضان الماضي .. وأترككم معها بدون تعليق فهي لن تحتمل
.
.
.
لا أدري كيف أبدأ رواية هذه القصة المؤلمة المليئة بالمواقف والعبر، إنها قصة واقعية موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها، ليس فيها إضافة من نسج الخيال مما يجد بعض الكتاب الحاجة إليه لإضفاء شيء من الحياة على أحداث رواياتهم أو لإستثارة مشاعر قرائهم.
فكرت كثيراً كيف أبدأ رواية هذه القصة، وكلما أعدت شريط الأحداث الأليمة عادت بي إلى نقطة وموقف، ثم لأتوقف عند ذلك الموقف في كل مرة عاجزاً عن التعبير فأدركت عندها أنه لا بد سيكون البداية لسرد هذه القصة.
اليوم هو الخميس 25 من شهر رمضان المبارك - الموافق 25 من شهر سبتمبر لعام 2008 م. كنت في عيادتي عندما تلقيت مكالمة من رئيس الأطباء يعلمني أن مسرّة البالغة من العمر سبعة أعوام تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن تواجدي مع أهلها هام جداً أثناء هذه اللحظات العصيبة فاعتذرت من باقي مرضاي في العيادة وأسرعت للعناية المركزة لأرى المشهد الذي مازال عالقاً في ذهني كلما أعدت الشريط لذلك اليوم أعود وأقف هناك إجلالاً لما رأيت. حقاً صدق من قال "إن هذا الشرع لا يحيا إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض"، وقد رأيت ذلك اليوم كيف تتجلى المعاني العظيمة المجردة مثل تعلق القلب بالله والصبر على بلائه والرضا بقضائه، كيف تتجلى هذه المعاني العظيمة في بشر حي فتحيا به، وكيف يصبح المؤمن بها قرآناً يدب على الأرض ... توقفت من على بعد أنظر لأرى وأعتبر بذلك الوالد الذي فقد ابنه الأول ميسرة البالغ من العمر ثلاث سنوات منذ سويعات قليلة وها هو الآن يودع إبنته مسرّة.
إن أعظم كتب الوعظ وأبلغ وعاظ الأرض ليعجزون أن يوصلوا هذه المعاني التي كان يخطها والد ميسرة ومسرّة في الصحف العلوية في ذلك المكان وذلك الزمان والله يسمع ويرى ويباهي ملائكته بعبده وهي تنظر إليه "قبضتم فلذات كبد عبدي فماذا قال عبدي؟".
رأيت كيف يجسِّدُ إنسان واحد في موقف ما ذلك المعنى الذي يصحح الله به ألف معنى، وكيف يكون المؤمن الواحد عندئذ هو فن الحياة كلها بل أستاذها ومعلمها بِصَمْتِه قبل نُطِقه وسُكونه قبل حركته، لحن سماوي يخرج من المؤمن دون قصد أو تصنع أو تمثيل في وقت تنصهر فيه معادن الرجال ليخرج منها جوهرها ولبّها وأصلها ويتطاير كل ما دون ذلك مما يخالطها من تراب الأرض وقبضة الطين وزور الدنيا.
وقفت بعيداً أنظر إلى ذلك الأب الذي فقد إبنه ميسرة قبل ساعات وهو الآن يودع ابنته مسرّة، بل قل وقفت أنظر إلى تلك المدرسة، وقد تخيلته في تلك اللحظة وهو يمسك بستار غرفة العناية المركزة إلا كأنما يمسك بأستار الكعبة تارة ينظر إلى إبنته كأنه يناديها، وتارة ينظر للسماء كـأنما يناجي ربه، وتارة أخرى ينظر إلى الأرض كمن يذكر نفسه أننا منها خُلقنا وإليها نعود.
عجيب أمر الإنسان ... بكل ضعفه يصبح مدرسة الكون عندما تعمل النفحة الربانية فيه عملها، وتقود في مثل هذا الموقف زمام أمره.
وضعت نفسي مكانه وسألتها يانفسُ ماكنتِ فاعلة في موقف مثل هذا؟ ... أكنتِ تجزعين، أو كنتِ تصبرين؟ ... لا كتب الله علينا مثل هذا الإبتلاء ... اللهم إن عافيتك أوسع لنا ...
ثم قلت في نفسي "إن لهذا الرجل مع الله لحالاً" فمثل هذه المواقف تشهد بالإيمان بما يعجز كل أهل الأرض أن يشهدوا به لأحد منهم ولو اجتمعوا".
انتقلت مسرّة إلى ربها وبقي والد مسرّة وميسرة، بقي المعنى الذي أحيا الله به في قلوب كل من رأوه ذلك اليوم والأيام التي تليه من الفضائل والمعاني ما يعجز القلم أن يعبر عنه.
وذهب والد ميسرة ومسرّة في إيمان ليبلَّغ زوجته بفقدان نصف أبنائهما في هذه السويعات القليلة ليكون أول ما تتفوه به الأم دون جزع ولا عويل ولا صراخ وإنما هو الإيمان بقضاء الله وقدره وحكمته ورحمته "لايأتي من الله إلا خير".
قذف الله في قلبي ذلك اليوم أن دوري أكبر وأبعد من مجرد دور طبيب أو رئيس تنفيذي لمستشفى، وأن هناك واجباً قد أوجبه الله علي سأشرك فيه المجتمع بأسره بعرضي هذه القصة عليهم وبسردي تفاصيلها الدقيقة لهم، وقررت أن أغوص في أعماق القضية وأعيش مع والد ميسرة ومسرّة قصته كلّها منذ اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وقد دخلا الدنيا إلى اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وأدخلهما القبر وتركهما هناك، ووافق الأب وجلس يسرد القصة بتفاصيلها، وعشت معه ساعات لم أر فيها أو أسمع قصة والد فَقَدَ ولديه بل لأكون أنا هذا الوالد الذي فقد ابنه وابنته في ذلك اليوم.
بدأت أعيش أحداث القصة ... فحاله حالي وألمه ألمي ولسانه قلمي، ها أنا ذا أكتب قصة رحيل مسرّة وميسرة كما هي بتفاصيلها الدقيقة بقلمي وكأنني أنا الذي فقدتهما تجسيداً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم والله لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فإليكم قصتي
>>>>>>>>>>>>>
>>>>>>>>>>>
>>>>>>>>
تابع الجزء الثاني
منقصة
مسرة وميسرة